العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

صراعٌ طبقيّ مطلبيّ وسياسيّ بامتياز

كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.

١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟

لا أعتقد أنّ أحدًا من الناشطين في المجال السياسيّ والاجتماعيّ من أحزابٍ وجمعيّات وأفرادٍ، توقّعَ حدوث مشهديّة 17 تشرين/أكتوبر بشكلها وامتدادِها.
لكنْ ممّا لا شكّ فيه أيضًا، أنّ الشارع اللبنانيَّ في السنوات العشر الأخيرة، منذ حملات "إسقاط النظام الطائفيّ" والحراك المطلبيّ لـ"هيئة التنسيق النقابيّة" وحراك "أزمة النفايات"، والانتخابات الأخيرة، وأزمة الحرائق، وصولًا إلى ١٧ تشرين/أكتوبر، كان يمرّ في حالةٍ من الغلَيان والحراك المطلبيّ المتواصل. أضف إلى ذلك عجزَ هذه السلطة والسلطات التي تتالتْ على الحكم منذ ٣٠ سنة بعد اتفاق الطائف في إدارة شوؤن الدولة بكل تفاصيلها السياسيّة والاجتماعيّة والماليّة والاقتصاديّة. إنّه عجزٌ بنيويٌّ ناتجٌ من هذه الصيغة التحاصصيّة الطائفيّة، وسياستِها الاقتصاديّة الريعيّة غير المنتجة. فالصراع الطبقيّ تبلورَ بين فئة الواحد بالمئة الأولغارشيّة الحاكمة (التي تحتوي على تناقضات داخليّة) وبين مصالح شرائحَ واسعة من المجتمع اللبنانيّ.

لقد تمّ القضاء تدريجيًّا على أيّ حسٍّ للمواطنة عند اللبنانيّين، بينما تضخّمَ الحسُّ الزبائنيّ والطائفيّ والمناطقيّ، والاستغلال السافر للطبقات الاجتماعيّة المتوسطة والفقيرة.

انتفض اللبنانيّون ضدَّ هذا النظام والطبقة الحاكمة المسيطِرة، وعلى كل مفاصل الحياة، "كلّن يعني كلّن". انتفض بشبابه، جيلُ ما بعد الحرب الأهليّة، الجيل المتعلّم المثقّف المطّلع، الباحثُ عن قواسمَ مشتركة تجمعه، وعن حلم بناء وطنٍ يشبهه، وطن اللاطائفيّة والعدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفساد، وطنٍ قابلٍ ومُقبلٍ على التطوّر العلميّ والاقتصاديّ.

انتفض بنسائه اللواتي يساهمن في مدّ جذور الشباب عميقًا في أرض الوطن، وفي تشكُّل الوعي والرابط المتين في تكوين اللغة والهويّة.

انتفض بشيوخه الحاملين للخوف ولحذر خيبات الماضي والقناعة بحتميّة التغيير. وأخيرًا والأهمّ بمناطقه المختلفة حيث تلاقت الساحات وامتدّت الانتفاضة على كلّ المدن الرئيسيّة من الجنوب إلى الشمال والبقاع مرورًا بالعاصمة بيروت.

إنّه صراع طبقيّ مطلبيّ وسياسيّ بامتياز، انفجر في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيَّنة وامتدّ تأثيرُه سريعًا إلى كل الفئات المتضرّرة بمختلف تشكّلاتها الحزبيّة والطائفيّة والطبقيّة.

"بفعل نضال الثوريّين يتوحّدون، على اختلاف تيّاراتهم وانتماءاتهم الفكريّة والسياسيّة، في حركةٍ ثوريّةٍ جديدة واحدة، تعيد إلى العالم نضارتَه، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكرًا على فكر، أو حزب، أو طبقة." (مهدي عامل).

تتعدّد القوى السياسيّةُ والاجتماعيّةُ في مرحلة الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة، لتنتج حركةً ثوريّةً تتناغم مع المرحلة التاريخيّة الراهنة وتنسجم مع مكوّناتها.

 

٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟

أدّتْ عفويّة هذه الانتفاضة إلى حصر الشعار المرحليّ في الأيّام العشرة الأولى في "إسقاط السلطة التنفيذيّة، وتشكيل حكومةٍ انتقاليّةٍ بصلاحيّاتٍ استثنائيّةٍ مسؤولةٍ عن عمليّة الانتقال السياسيّ من خلال الانتخابات". شعار مرحليّ تحقّقَ جزؤه الأوّل، ممّا أدخلَنا في دوّامة تشكيل حكومةٍ جديدة. لم نملك أدواتِ الضغط الكافية لفرض حكومة انتقاليّة من خارج أحزاب السلطة تتبنّى مطالب الثوّار. أمّا بالنسبة إلى حكومة التكنوقراط المستقلّة، فإنّ مصداقيّتها معدومةٌ بسبب غياب مشروعها السياسيّ والاقتصاديّ المستقلّ وعدم قدرتها على ممارسة الحكم بمعزلٍ عن القوى السياسيّة المسيطِرة.
المسار الأهمّ يكمن في إسقاط الشرعيّة عن السلطة التشريعيّة، حيث بقيت ممسكةً بكل مفاصل الحكم. هذه السلطة - رغم نجاح الانتفاضة في منعها من التشريع خلالَ المرحلة الأولى من الثورة - لم تفقد شرعيّتها السياسيّة بالمطلق، رغم فقدانها للثقة والشرعيّة الشعبيّة. بل استطاعت فرض حكومة تكنوقراط مغلّفةٍ بتحاصصٍ طائفيٍّ حزبيٍّ، ممّا شكّل استمراريّةً للسياسات الاقتصاديّة والماليّة للحكومة المخلوعة. من المنصف اعتبارُ التغيير في التغليفة الخارجيّة للحكومة وتحييد عدد كبير من الشخصيّات السياسيّة خطوةً متواضعةً إلى الأمام، لكنّ خطورتها تكمن في غياب الخطّة الإصلاحيّة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وتبعيّتها للسلطة السياسيّة والمصرفيّة والطائفيّة، فاستمرّت في مسار تحميل الطبقات الأكثر فقرًا وصغار المودعين والأُجراء في القطاعَين العامّ والخاصّ تبعاتِ الخروج من الأزمة، عبر إعفاء طبقة الـ١٪ من تحمّل المسؤوليّة وعدم فرض قوانينَ لاستعادة الأموال المنهوبة ولإقرار ضرائبَ تصاعديّة كخطوةٍ أوّليّةٍ للخروج من الأزمة.

 

٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟

لهذه الانتفاضة إنجازاتٌ عدّة، على الرغم من انحسارها وتراجعها القسريّ بسبب انتشار وباء فيروس الكورونا، من أهمّها:

- تَبلورُ القناعة بضرورة المحاسبة والرقابة الشعبيّة.

- التصويبُ على الخلل في تركيبة هذا النظام الطائفي المولّد للفساد.

- انفصالُ عددٍ لا يستهان به من قواعد الأحزاب الطائفيّة وخلقُ حالةٍ من التفكّك في صفوفها، وتزعزعُ مفهوم القائد الطائفيّ وتَعرّضُه إلى النقد الجارح وصولًا إلى حدّ الشتيمة.

- تشكيلُ مجموعاتٍ شبابيّةٍ في مختلف المناطق تسعى إلى التواصل وكسر عزلتها الطائفيّة والمناطقيّة وإلى النقاش مع بعضها البعض ومع المتخصّصين من أجل تحليل الواقع وفهمه، وانخراط فئاتٍ شابّةٍ في العمل السياسيّ والاستحواذ على الحيّز العامّ واعتباره ملكًا عامًّا ومكانًا للتعبير الحرّ بكل الطرُق الإبداعيّة والفنيّة.

- ظهورٌ بارز لدور النساء في الصفوف الأماميّة ورفع المطالب النسويّة كمطلبٍ أساسيٍّ في التغيير الاجتماعيّ.

وتكلّلَت هذه الإنجازاتُ بانتصارٍ مهمٍّ جدًّا على صعيد العمل النقابيّ، تمثّل في انتخاب ملحم خلف نقيبًا للمحامين، ممّا شكّل تحدّيًا أساسيًّا في كسر هيمنة أحزاب السلطة على القرار النقابيّ. ونتمنّى أن ينعكس هذا التغيير على باقي النقابات في لبنان.

لقد تشعّبَت المطالبُ، لكنّها صبّتْ كلُّها في تحميل الثالوث المتمثّل بالسلطة السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة، المسيطِرة على السياسات العامّة للبلد، مسؤوليّةَ تشريع الفساد وإفلاسِ الدولة.

لكنّ المطلب السياسيَّ الأبرز والأهمّ لم يتحقّق، وهو "إسقاط النظام"، أي إسقاطُ هذه الطبقة المهيمِنة والمستفيدة والمطْبقة على كلّ مفاصل الحكم. فلم يُصر إلى محاكمتها أو الحدّ من سلطتها من خلال استعادة الأموال المنهوبة أو حتى فرض الإصلاحات الاقتصاديّة والنقديّة. لذا، سوف تسعى هذه السلطةُ من جديد إلى إعادة اللحمة بين قواعدها وتعويم السياسيّين بمساندة الإعلام المأجور من خلال تقديم المساعدات الزبائنيّة مستغلّةً الأزمة العالمية لوباء الكورونا. ونلاحظ اليومَ انتشارَ الكمّامات مرمّزةً حزبيًّا، بالإضافة إلى صناديق الإعاشة، كوسيلةٍ لتغذيةِ روح التحاصص على أسسٍ حزبيّةٍ وطائفيّة واستغلالِ حاجة الشعب اللبنانيّ في هذه الظروف القاسية جدًّا.

 

٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟

في الواقع، نحن في طَور إنتاج حركةٍ ثوريّةٍ بشقّيها السياسيّ والمطلبيّ، لكنّها لم ترتقِ إلى مرحلة السيطرة على مفاصل الحكم ولم تستطع أن تشكّل حكومة ظلٍّ قادرةً على التفاوض وفرض الشروط. لم يرفع الشارع شعار إسقاط السلطة التشريعيّة، ولم نطالبْ بدستورٍ جديد للبلاد وإلغاء الطائف.
كان من الضروريّ إعادة تشكيل هذه السلطة على أسسٍ جديدة، وليس فقط إعادة توزيع الحصص والمناصب. أعتقد أنّ تلك اللحظة التاريخيّة حيث اندفع إلى الشارع عدد لا يستهان به من اللبنانيّين لن تتكرّر بهذه السهولة. لو كان الشارع يتحلّى بالوعي والتنظيم السياسيّ والنقابيّ اللازمَين، لكان من الممكن بلورةُ مشروعٍ أكثر جذريّة، لكنّه في حالته هذه اكتفى بالمطالبة بالإصلاحات ولم يستطعْ إحداثَ تغييرٍ حقيقيٍّ في قواعد اللعبة السياسيّة.

 

٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.

إنّها مرحلةٌ أولى من مسارٍ صراعيٍّ طويلٍ ومعقّد، أثبتتْ أحقّيّة المطالب المرفوعة. لكنّ السلطة الحاكمةَ ما زالت قويّة رغم كل التناقضات التي تعصف بها، وهي مستعدّةٌ لاستعمال الخطاب الطائفيّ والفئويّ من أجل حماية مكتسباتها التي راكمتْها على مدى سنوات عدّة. وقد أثبت تطوّر الصراع مدى ضرورة العمل بشكلٍ جدّيٍّ على تشكيل أطر نقابيّة وعمّالية ثوريّة ترتقي بالعمل الجماهيريّ إلى مستوى المرحلة السياسيّة وتحدّياتها التغييريّة، بالإضافة إلى حتميّة عمل الجمعيّات والمنظمّات والأحزاب على تشكيل جبهاتٍ موحّدة، تتوافق على مشاريعَ مرحليّة، لطرح خطة ثوريّةٍ اقتصاديّة واجتماعيّة تعمل على تغييرٍ في أسس هذه المنظومة والتأسيس لجمهوريّةٍ ثالثة وعَقدٍ اجتماعيّ جديد.
إنّها مرحلة اقتصاديّة دقيقة، سوف تتفاقم خلالها الأزمات الاجتماعيّة والبيئيّة بالتشابك مع تداعيات انتشار وباء فيروس الكورونا، في ظلّ الفجوات البنيويّة في السياسات الصحيّة المتّبعة من قبَل الدولة، بالإضافة إلى النقص الهائل في التجهيزات الصحيّة والتقديمات الاجتماعيّة للآلاف من المتعطّلين من العمل والمجبَرين على الحجر الصحيّ. من هنا علينا الاستعدادُ بشكل جدّي لمواجهة المرحلة القادمة.

العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.