العدد ٢٢ - ٢٠١٩

المفكّرة المسكوبيّة

وموسيقى المستقبل

النسخة الورقية

عندما نقول مفكّرة، يتبادر إلى الذّهن تسلسل الأيّام المؤرّخة عبر تسلسل الشّهور لسنةٍ معيّنة، لكنّنا هنا بصدد ما أبقتْه الأيّامُ في قعر الذّاكرة وقد مرّ عليه الزّمن، لذلك لا تصلح التّسمية. كذلك الأمر بالنّسبة إلى المذكّرات الّتي هي على أشدّ الارتباط بالمفكّرة والّتي تُسمّى بدورها «أجندة». وما تمسُّكُنا بكلمة «مفكّرة» إلّا على سبيل المجازة ولجميل وقعها على الأذن وحسن الرّؤية التّخيّليّة المتأتّية عنها عبر الزّمن. وما يعنيني في المفكّرة ذكرياتُها، حيث يمّحي التّأريخ الزّمنيّ - الدّقّة في الزّمن، ويبقى لبُّ الحدث وجوهره مرتبطاً بعلامةٍ فارقةٍ إذا أمكن الأمر. والعلامة الفارقة هنا هي زمن حكم خروتشوف، وبين التّاريخين العائدين لعام وصولي إلى موسكو، ١٩٦٢، وعام خروجي منها بعد حصولي وبتفوّق على شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصاديّة بكامل عدد أصوات اللّجنة المشرفة، في أيّار / مايو ١٩٦٨.

ستّة أعوامٍ قضيتُها هناك. تعلّمتُ ورأيتُ فيها الكثير. تعلّقتُ باللغة الرّوسيّة الّتي لا تزال حبيبةً عندي وقريبةً منّي. هذه اللّغة كبيرة الأثر لما تحمل من حضارةٍ وثقافةٍ تعمّقُ الارتباط الإنسانيّ بين الشّعوب. واللغة بالنّسبة إليّ خيطٌ غير مرئيّ يصل القلب والعقل عبر الحروف. يقولون «من علّمني حرفاً كنتُ له عبداً»، أمّا أنا فأقول «غدوتُ له صديقاً صدوقاً ولو مرّ الزمن». واللغة أيضاً من عناصر القوميّة، وليس عبثاً في هذا الإطار تمسّك الفرنسيّين بالفرانكوفونيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، اليوم وقبلاً، بنشر اللّغة الإنكليزيّة التي تفرض نفسها جرّاء التّفوّق الحضاريّ لهذه البلاد.

تحمل مفكّرتي هذه الكثيرَ ممّا يطفو على سطح الذّاكرة وينبثق من فيض خاطر رجلٍ بلغ من العمر ٩١ عاماً. مفكّرتي هذه ذكرياتٌ مضى على وقوعها حوالي نصف قرنٍ من الزّمن لسنواتي السّتّ الّتي قضيتُها هناك، في موسكو. وما هذه المفكرة سوى الشّاهد على ما قلتُ حول اللّغة وما سأقول تباعاً، والّذي يتأرجح بين السّلب والإيجاب، فالإيجابيّ من ذكرياتي كثيرٌ كثير، والسّلبيّ ليس بالقليل القليل. وأستميح القارئ عذراً لتركيزي على السّلبيّ ممّا عايشت، ولذلك سببان: جماليٌّ وواقعيّ. أمّا السّبب الأوّل فيرجع إلى أنّ الأدب والمسرح والفنّ وأضرابهما على الإجمال يُركّز فيها على السّلبيّ من أيّام «أريسطوفان» حتّى اليوم، والإيجابيّ شيءٌ طبيعيّ وواجبٌ طبيعيٌّ على الدّولة، الّتي لا تُشكر عليه لأنّها تقوم بما يُفترض أن تقوم به. هذا في المبدأ، لكنّ العكس هو الذي يحصل، لذلك فالتركيز على السلبيّ من قبل النقّاد في مختلف حقول الكتابة والفنّ. أمّا السّبب الواقعيّ فيرجع، بحسب رأيي المتواضع، إلى أنّ الأحداث السّلبيّة في تلك الفترة هي الّتي زادت من أرجحيّة انهيار الاشتراكيّة في الاتّحاد السّوفياتيّ. وانهيار الاشتراكيّة هناك مَردّه إلى سببٍ أو مجموعة الأسباب الدّاخليّة أكثر منه إلى الخارجيّ من تلك الأسباب، ذلك أنّ الدّاخل يلعب دوراً كبيراً في التّصدّي للخارج إذا ما كان متماسكاً متيناً على المستوى الشّعبيّ، الأمر الّذي نرى أنّه لم يكن متوفّراً في الاتّحاد السّوفياتيّ في الجوهر الاجتماعيّ للحياة سوى في الظّاهر وفي «البروباغندا».

أكتبُ ما أكتبُ هنا لتبليغ القارئ رسالةً وإفهامه أنّنا من المتمسّكين بالاشتراكيّة، أو أيّ اسمٍ آخرٍ لها، كحلٍّ لمشكلة المعضلة المزمنة: الاستغلال الوحشيّ للامبرياليّة النّيوليبراليّة الحاليّة المعولَمة، والّتي، بصفتها هذه، تزيد من صعوبة النّضال في وجهها بطريقةٍ غير معقولة. وذكرياتي هنا مجموعة أحداثٍ للحياة اليوميّة الّتي عاشتْها البلاد في ضوء الاشتراكيّة، والّتي جرى نقلها كما هي إلى باقي دول المعسكر الاشتراكيّ، الأمر الّذي يتناقض جذريّاً والماركسيّة التي ترفض «الكزّ» وتقول بضرورة أخذ الظّروف الموضوعيّة التّاريخيّة، الماضية والحاضرة للبلاد، على مختلف الصّعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضاريّة وكذلك الثّقافيّة بعين الاعتبار عند بناء الاشتراكيّة فيها.

تبدأ ذكرياتي خلال فترة حكم الرّئيس السّابق للاتّحاد السّوفياتي نيكيتا خروتشوف، الّتي لم يعد لـ«السبوت الشيوعيّة» فيها وجود، كما أنّ روسيا في تلك الفترة كانت في قلب السّلم التّام باستثناء الحرب الباردة. لكنّ الحديث عن ذكرياتي، بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، يشمل أيضاً فترة حكم جوزف ستالين الرّهيب رغم ما شهدتْه من إيجابيّاتٍ في بناء الاشتراكيّة، ولو بشكلٍ بوليسيّ مرعبٍ مع الأسف الشديد ورغم الخلاف عليه. وما يحيّرني ويرعبني في الوقت عينه انتصارات الشّعب الرّوسيّ العظيم الّذي قدّم بطولاتٍ خلال خوضه الحرب العالميّة الثّانية وانتصاره على ألمانيا النّازيّة، هذا الانتصار الّذي يُحتفل به حتّى اليوم وبعد زوال الاشتراكيّة كونه يُعتبر من قبل الحكم الحاليّ نصراً وطنيّاً روسيّاً، والأصح القول سوفياتيّاً، لأنّ الكثير من الّذين نالوا وسام بطل الاتّحاد السّوفياتيّ هم من غير الرّوس وعلى رأسهم التّتار. لقد انتصر الشّعب الروسيّ على النّازيّة باسم الوطن واسم ستالين. لكنّ هذا الأخير قام بعد النّصر بما لا يقبله العقل: مكافأة التتّار الّذين كانوا جزءاً أساسيّاً من صانعي الانتصار بإعادتهم إلى آسيا الوسطى، موطنهم الأصليّ، مشياً على الأقدام فمات نصفهم على الطّريق، وأودع في «معسكرات الغولاك» الأسرى لدى الألمان بعد عودتهم إلى بلادهم.

لقد رأيتُ سابقاً في أوّل تجربةٍ للاشتراكيّة سبيلاً للخلاص من جحيم الإمبرياليّة النّيوليبراليّة، لكنّها، وللأسف الشّديد، لم تنجح. لكن على العزيمة أن لا تهون ولا تضعف، بل تتضاعف للوصول إلى الهدف المنشود من قبل كلّ الفقراء والكادحين في العالم.

الصّدمة!

قبل مغادرتي إلى الاتّحاد السّوفياتي في العام ١٩٦٢، قرأتُ تاريخه واطّلعتُ على جغرافيّته الّتي استكملتُها لاحقاً في موسكو. ساعدتْني القراءات على عقد مقارناتٍ بين ما قرأتُ ورُوي لي وبين ما شاهدت هناك. لحظة وطئتْ قدماي أرضَ الاتّحاد السّوفياتي أصابتني الصّدمة! لم أتوقّع ما رأيت فيها لطوباويّتي في مقاربة موضوع الاشتراكيّة، ولمثاليّتي الّتي أحملها بالفطرة والتي اكتسبتُها بالتّربية العائليّة.

أدين لتلك البلاد بتوضيح الصّورة عمّا كنتُ أحلم به: الاشتراكيّة، صنو العدالة الاجتماعيّة بالمفهوم الواسع، في هذا المجتمع الجديد الذي كان للأسف الشّديد غير حرّ وينقصه الكثير الكثيرمن الإيجابيّات.

بعد فترةٍ من الإقامة في موسكو وتكرار ما سمعتُ فيها وما شاهدت، وأكّده لي لاحقاً أحدُ القياديّين في الحزب الشّيوعيّ اللّبنانيّ بعد عودتي إلى لبنان، أستطيع القول إنّ مصدر الأحداث السّلبيّة في البلاد هو السّلطة، وبالأخصّ المسؤولين الحزبيّون، والمراقبون منهم على وجه التّحديد. ليس أفراد الشّعب مصدر ذاك السّلبيّ، فهذا الشّعب بشكل عامّ طيّبٌ وبسيطٌ لا تزال في حناياه تركيبة ورائحة الفلّاح (الموجيك بالروسيّة) الكادح في روسيا.

١٧ كلباً في طائرة

كانت السّنة الأولى من وجودي في موسكو مخصّصةً لدراسة اللغة الروسيّة. كنّا نعيش في منامةٍ داخليّةٍ قريبةٍ من المدرسة. في هذه السّنة صدف أن سمعتُ المسؤول الحزبيّ في المدرسة، كنتُ قد بدأت أفهم الرّوسيّة، يتحدّثُ عبر الهاتف قائلاً «ما بك؟ طبعاً بالطّائرة! وأين نضع ١٧ كلباً للصّيد؟». نزل هذا الكلام كالصّاعقة عليّ فهو حمل دلالاتٍ كثيرةً ومرعبة. مسؤول حزبيّ بسيط في مدرسة اللّغة يتمكّن من أن يذهب إلى الصّيد بالطّائرة بصحبة مجموعةٍ من الحزبيّين ومعهم ١٧ كلباً! وليس هذا المسؤول سوى مثالٍ بسيطٍ عن سلبيّات الطّبقة الحاكمة، وخصوصاً المسؤولين الحزبيّين.

ذكّرني ما سمعتُ من «أستاذ الكلاب» بناظم حكمت الّذي رفض زيارة الأديب الرّوسي الكبير شولوخوف عندما قال له: أرسل لك يختي الخاصّ على نهر الفولغا لإحضارك إلى «الداتشا» خاصتي، والدّاتشا هي الفيلّا الخشبيّة الّتي تُبنى في الغابات وعلى ضفاف الأنهر أحياناً.

لقد انتشرت الداتشات خلال حصار موسكو من قبل العدوّ النّازي، فبينما كان المسنّون من السّكّان يدافعون عن المدينة بأسلحة الصّيد كان بعض الجنود يبنون «داتشات» للجنرالات في غاباتٍ لا يطاولها الحصار. عندما تحدثت عن ذلك مع بعض الأصدقاء والصديقات اللواتي اعتدنا السّمر معهم قالوا «نعم». قلت كيف؟ أجابوا: عندنا هكذا! (بالروسيّة «Y Hac Tac» «أوناستاك»). وهم يجيبون بها عندما يعجزون عن الإجابة على ما هو غير منطقيّ. قلت لهم: هذا ليس بجواب، بل هروبٌ إلى الأمام من الجواب. فردّوا: صحيحٌ ما تقول.

هنا تتداخل أفظع السّلبيّات مع الإيجابيّاتٍ التي توضع في خانة البطولة، فبفضل هؤلاء الجنرالات الذين بُنيت لهم الداتشات وبفضل علمهم ومعرفتهم الحربيّة، إلى جانب عبادتهم لستالين، تمكّنوا من ربح الحرب والانتصار على النّازيّين.

في فرنسا النّقيض من «داتشات موسكو». روى لي الرّوائيّ المرحوم جواد صيداوي حين كان يقيم في فرنسا ويعمل في إذاعة «مونتي كارلو»، عن لقاءٍ أجراه مع الشّاعر الفرنسيّ والرّوائيّ لويس آراغون أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. عُقد اللّقاء في قصرٍ منيف، وبعد الانتهاء منه سأل الصيداوي الشاعرَ الكبير «أنت عضوٌ في المكتب السّياسيّ للحزب الشيوعيّ الفرنسيّ وتسكن قصراً كهذا؟» انفجر أراغون ضاحكاً وأجاب: «هذا القصر يعود بعد موتي للدّولة الفرنسيّة التي كرّمتْني بسكناه مدى الحياة». هذه هي بلاد الثورة الفرنسيّة، التي على الرّغم من كون الحكم فيها غير اشتراكيّ، تكرّم شاعراً في الحزب الشّيوعيّ الفرنسيّ وتعتزّ به لأنّه يرفع رأس فرنسا حضارياً غير آبهةٍ لأيديولوجيّته. وهذا ما حدث أيضاً في إنكلترا حين توفّي عالم الفيزياء الفلكيّة ووريث آينشتاين، ستيفن هاوكنغ، فكُرّم بدفنه في كنيسةٍ عظيمة إلى جانب نيوتن، على الرّغم من آرائه الفلسفيّة الملحدة.

تكفي هذه الأمثلة البسيطة لعقد مقارنةٍ واضحة مع ما عاناه الكُتّاب والشّعراءُ في الاتّحاد السّوفياتي من تضييقٍ، لاسيّما في ما يتعلّق بالنشر، باستثناء «فقهاء السّلطان» منهم، أمثال شولوخوف الذي امتلك ملكاً خاصّاً في ظلّ الاشتراكيّة.

ورقٌ مفتّت وبلادٌ ملأى بالشّجر

لقد استُعمل في الاتّحاد السّوفياتي ورقٌ سيّئٌ للغاية، لاسيّما بالنّسبة إلى الكتب الجامعيّة التي تكتنز جهد التأليف المشترك. لقد كنتُ شاهداً على ما أقول في كتاب «تخطيط الاقتصاد الشّعبي» بمشاركة مجموعةٍ من الأساتذة في كرسيّ أو كلّيّة التّخطيط حيث تخصّصتُ وكتبت أطروحتي.

يخرج الكتاب بمضمونٍ ممتاز، أمّا الورق والإخراج فالويل كلّ الويل. هل يمكن أن يبدأ فصلٌ جديدٌ في أسفل صفحةٍ بعنوانٍ في أسفلها مع سطرين؟ الورق خشنٌ ويتفتّت مع الزّمن، أمّا قلّة التهوئة وضيق الهوامش فيزعجان الطّالب والقارئ إذا ما أراد تسجيل ملاحظات. الحلّ الأمثل هو في صناعة للورق بنفضةٍ تخطيطيّةٍ كبيرةٍ، والبلاد ملأى بالغابات. من الواضح إذاً أنّ الحلّ للواقع السلبيّ في الاتّحاد السوفياتيّ يكمن بحلّ جذريّ يطاول الكتاب وكلّ أنواع القرطاسيّات والمجلّات واستعمال الورق في الإدارة والمحالّ التّجاريّة وغيرها. كلّ هذا في وقتٍ لم يتوفّر فيه لدى السّوفيات ورق مرحاض كما كان متوفّراً لدينا منذ نصف قرن.

التنبلة من أسفل والتنبلة من أعلى

في تلك الفترة انتشرت التّنبلة بين العمّال، وهي من أفظع السّلبيّات، ولكن في الوقت نفسه، صدر الكسل عن الرّفاق المسؤولين في الحزب الشّيوعيّ داخل الاتّحاد السوفياتيّ، أي الكسل «من الأعلى». لم يعمل هؤلاء الرّفاقُ بالشّقّ المهمّ من الاشتراكيّة، والّذي قال به قبلاً الشّيوعيّ الأوّل في العالم، المسيح عيسى بن مريم: «من لا يعمل لا يأكل». لم يطبّق المسؤولون في الحزب هذا الشّعار المهمّ للغاية، لأنّه يطاولهم أوّلاً، فسكتوا عن التّنابل في حلقات الإنتاج والتّوزيع والاستهلاك المختلفة والّذين يُفترض أنّهم كانوا تحت مراقبتهم وتفتيشهم. وكيف يفعلون ذلك وهم المدانون قبل أن يُدان المراقَب والمفتَّش؟ لقد عمل الرّفاق المسؤولون لنصف أسبوعٍ وارتاحوا النّصف الآخر، باستثناء الظروف الطارئة.

تذكّرني التّنبلة بحادثةٍ كنتُ شاهداً عليها أثناء إجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ لي في مستشفى بوتكنسكايا - Botkinskaia. خلال مكوثي هناك سمعتُ شخصاً يلحّ على الطّبيبة ويترجّاها أن تمدّد له الإقامة أسبوعاً آخر. استجابت الطبيبة لطلبه بسبب انشغالها وضيق صدرها منه، وقالت بانفعال «هذه هي المرّة الثّالثة والأخيرة التي أستجيب فيها لطلبك... كفى كفى...». تنبلة حتّى في المستشفى يا جماعة؟ ماذا تريدون أكثر من ذلك؟!

أودّ الإشارة هنا إلى أنّ الشّيوعيّين العرب، واللّبنانيّين منهم، نَقلوا لنا صورةً مهزوزةً وضبابيّةً وغير صحيحة ولا واقعيّة عن بلاد السّوفيات والحياة فيها، صورة مغلّفة ببريق الدّعاية، والأصحّ القول «البروباغندا»، وحتّى الكذب. وليعذرني الجميع في ذلك. وذلك ربّما عن وعيٍ أو لا وعي، على أنّي أرجّح الوعي المرفق بالغيرة على أهمّية الاشتراكيّة والتغاضي عمّا سواها. وهذا هو الحال حتّى في الكتابات الماركسيّة الأرثوذكسيّة حتى اليوم، حيث لا لفتة ولا انتباه كلّيّاً لـلأخلاقيّات (Ethique) وقبول الاتّحاد السوفياتيّ كما كان.

أهمّيّة الحافز المادّي

والواقع أنّ عدم شعور الإنسان بالمكافأة الصّحيحة مقابلَ ما يقدّم من عمل مسألةٌ في غاية الأهمّية، فلا يمكن مساواة مَن يعمل بمن يتكاسل في العمل لدرجة نعته بالتّنبل، كما أنّ المكافأة الصّحيحة مقابل العمل والأخذ بالحافز المادّيّ عاملان أساسيّان لتصحيح هبوط مستوى الإنتاج الّذي كان قائماً قبل الأخذ بهذا الحافز. ويمكن مداواة هذه المسألة بالعمل بالقطعة مثلاً عند الإمكان، فمن ينتج أكثر يأخذ أكثر والعكس صحيح. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كان يحصل في المناجم عند الحاجة الملحّة إلى مزيدٍ من فحم حجريّ أو معدنٍ آخر، إذ يُتّفَقُ مع مجموعةٍ من العمّال على مبلغٍ معيّنٍ إضافيّ إلى الأجر الشّهريّ إذا ما أنهَوا العمل خلال مدّةٍ معيّنة. يفعل العمّال ذلك، يُنهون عملهم قبل المدّة المحدّدة بسبب الحافز المادّي، إلّا أنّ الإدارة للأسف لا تفي بوعدها وتخفض قيمة المكافأة. وعلى الرّغم ممّا يولّده هذا من غضبٍ وحنقٍ لدى العمّال، إلّا أنّهم لا يملكون خياراً سوى الاستمرار في العمل، ولكن بحماسةٍ أقلّ طبعاً.

لكن أين يذهب الفارق بين المبلغ الموعود وذلك المدفوع للعمّال؟ هل يذهب إلى ميزانيّة المنجم أو المعمل أو غيرهما؟ الشّك في أنّ ذلك يحصل مشروعٌ، ذلك أنّ الفساد كان متفشيّاً إلى حدٍّ كبيرٍ في مختلف مجالات الإنتاج والتّوزيع والاستهلاك، وبشكلٍ خاصّ في المحالّ التّجاريّة حيث البضائعُ الأجنبيّة المستوردة والوقوف بالدور. إنّ انعدام الحافز المادّيّ على الغلّة لمدير المحلّ والباعة يميت الهمّة في العمل طالما أنّ الأجر الشهريّ ثابتٌ مهما بلغت الغلّة.

وأودّ الإشارة هنا إلى ضرورة الأخذ بمبدأ «الأوكازيون» كما كان يحصل في بعض بلدان المعسكر الاشتراكيّ الأخرى آنذاك، حيث يؤدّي تخفيض نسبة معيّنة على سعر السّلعة إلى زيادة المبيع والخلاص من «الستوكات».

الأمثلة على ذلك كثيرة، لكنّي أكتفي بالحديث عن الأحذية. تخيّل معي صنادل صيفيّة غليظة النّعل في واجهةٍ أحد متاجر المدينة بسعر ١٤ روبل للزّوج وإلى جانبها أحذية صيفيّة لطيفة فاتحة الألوان (زهري خفيف، ورماديّ خفيف، وعسليّ خفيف إلخ.) بسعر ٩ روبلات للزّوج. تتكدّس الصّنادل في العنابر وتُباع الأحذية. لا تحريك. التّجارة بحاجة إلى حركة. لو أرسلت هذه الصّنادل إلى مدن الأرياف الصّغيرة لنفدتْ حتّى من دون تخفيض الأسعار، أمّا إذا حصل عليها تنزيل أوكازيون بنسبةٍ مئويّة فتنفد كالخبز في يومين.

bid22_zakira_atef_elbi_photo3_rgb.jpeg


الساحة الحمراء في موسكو في الخمسينات من القرن العشرين

هذا ما رواه لي طالبٌ أتى من الريف إلى جامعة موسكو باسم لومونسوف للتّعلم. بالمناسبة، رؤساء الجامعات ملزَمون بأن تكون هناك نسبةٌ معينّةٌ من أبناء الرّيف في جامعاتهم، ويُمنع أن تقتصر الجامعة على سكّان المدن من أبناء الأطبّاء والمهندسين والجرّاحين والمحامين والقضاة والعمّال وغيرهم. هذا من أهمّ إيجابيّات الحياة الاشتراكيّة، وهو من أهمّ بنود المساواة، ولو النّسبيّة، بين المدينة والريف.

نواقصُ في بلاد التّخطيط والثّورة

يتميّز الاقتصاد الاشتراكيّ عن الرّأسماليّ بأمورٍ كثيرة منها التّخطيط. لن أدخل في موضوع التّخطيط الإرشاديّ في الرّأسماليّة لأنّ موضوعي هو تخطيط الاقتصاد «الشّعبيّ» في الاتّحاد السّوفياتيّ (او «الوطنيّ» كما يسمّي في بلدان العالم الثّالث). ساد شعورٌ لدى المسؤولين، منذ أيّام خروتشوف، بضرورة الإقلاع عن الجمود والأخذ الحرفيّ بالخطط الخمسيّة والعشريّة، وإدخال المراقبة الدّائمة للمنجز في التّخطيط، سنويّاً، ثمّ المراقبة المستمرّة وقد أصبحت أسهل بفضل التكنولوجيا الحديثة. كذلك صار يجري إيقاف بعض المشاريع للتركيز على إنجاز الأهمّ منها. علماً أنّ ما أذكره الآن لا علاقة له بالتّخطيط بقدْر ما هو مرتبطٌ بالبيروقراطيّة ومنها أمثلةٌ متفرّقةٌ للدّلالة على النّواقص في بلاد التّخطيط.

في عام ١٩٥٧ حضرتُ مهرجان الشّباب في موسكو. تصوّروا أنّنا كنّا في اليوم الرّابع منه وبعض المنصّات لم تنجز بعد. أثناء إقامتي في جامعة موسكو، كان بالقرب منها، على تلال لينين «سيرك» قيد الإنشاء، غادرتُ بعد أكثر من ٥ سنوات ولم ينجز.

لم يكن هذا بخافٍ عن النّاس أو المعنيّين، لكنّ التّغاضيَ كان طريقة التّعامل الوحيدة. قالت لنا أستاذة اللّغة منذ أوّل يومٍ للدّراسة: نحن نعرف أنّ هناك نواقصَ كثيرة عندنا أو هناتٍ صغيرة، لكنّنا لا نحبّ أن نُنتقَد. وحدّثنا أيضاً مسؤولٌ حزبيٌّ مسنّ في منتهى النّضج والتّواضع عن الأيّام الأولى للاشتراكيّة حيث كانت الحرارة في الغرف ١٨ درجة فيفركون أيديهم بالثلج للتدفئة، ويعتبرون الأمر طبيعيّاً. أمّا اليوم فالحرارة ما بين ٢٠ - ٢٢ درجة. كما حدّثنا عن وجود البغاء وأمورٍ أخرى أو عن المسرح الذي لا يؤمّه العمّال بل يكتفون بالسّينما. لقد كان هذا المسؤول صريحاً أكثر من غيره في الاعتراف بالنّواقص. في المطاعم وغيرها كسكك الحديد ومحلّات الخياطة لا يعطونك سجّل الشكاوى لتكتب ما لا يعجبك. السجلّ من المظاهر الخارجيّة التي تجري في الحديث والكلام ليس إلّا، وفي مجّلة «كروكوديل» (التمساح) الكاريكاتوريّة.

عبيد الاشتراكيّة

ما يلفت النّظر في موسكو كذلك «الأهرامات» السّتّة ذات الطّراز الهندسيّ الواحد، وهي بارتفاع عالٍ جدّاً، لا يقدعن ٣٠ طابقاً حسب ما أذكر. والجدير بالذّكر أنّ النظّام الجديد لم يمسّ الرّسوم الرّمزيّة عليها. أهمّ هذه الأهرامات الستة من القرن العشرين هو جامعة موسكو للدولة باسم لومونسوف، وهي أرحبها سعةً وذات أجنحةٍ متعدّدةٍ ومن طراز من الهندسة الثّقيلة القاسية والجميلة في الوقت عينه. وقد وصف ذلك الإنجاز الهندسيّ الضخم وبالفرعونيّ لأمرٍ آخر. خلال حديثٍ مسائيّ متنوّع متشعّب، قال لي جاري الروسيّ إنّه في أساس هذه الجامعة مدفونٌ أحد المهندسين، فردّ زميلٌ آخر «بل مهندسون». وقصّة ذلك أنّه عندما يختلف عمّال البناء مع مهندسٍ ما حول الأجور لا يجادِلون بل يرمون به في جبلّة الخرسانة ويصبّونها في الأساسات ولا يسمع عنه أحدٌ بعدها. والذين شادوا هذه الأبنية الأهرامات العصريّة هم من المحكومين بالسّجن المؤبّد، الأمر الّذي جعلني أشعر كأنّي أمام عبيد القرن العشرين ونحن نبني الاشتراكيّة.

قد يتساءل المرء عن سبب وجود هذا العدد الكبير من المحكومين بالسّجن المؤبّد؟ لا بدّ أنّ في الأمر نقصاً في البحبوحة المادّيّة أو فوضى في نمط الحياة. الأهمّ من هذا وذاك هي التّربية القاصرة. إنّ بناء الاشتراكيّة كمبانٍ ومصانع ومعامل وورشات وغيرها شيءٌ، وبناء الإنسان الاشتراكيّ شيءٌ آخر. البناء الأوّل أسهل من الثّاني، فالأخير يتناول الإنسان والتّغييرات الّتي يُفترض أن تحصل على صعيد العمل والحياة والنّفسيّة وغيرها. وبحسب ما علمت، يُستعاض عن تنفيذ عقوبة الإعدام بحقّ المحكومين بتشغيلهم في المناجم المشعّة وغيرها. لا يموت العمّال حينها على حبل المشنقة لكنّهم يموتون ببطءٍ بما تنتجه تلك المناجم.

الواقع أنّ المشاكل الاجتماعيّة كبيرة وتتأتّى للوهلة الأولى عن القلّة وضيق الحال في الحياة. لكنّ هذا لا يبدو لنا تحليلاً اجتماعيّاً عميقاً. يجب الأخذ بعلم الاجتماع النّفسيّ في بناء المجتمع الجديد، أي عدم الانعزال، على الأقلّ علميّاً، عن الخارج. وهناك مشكلة «السُكُر» و«القتل بالقرعة» التي كانت قد زالت عندما كنّا هناك على ما يبدو. وأقول على ما يبدو لأنّ الصحافة لا تنشر شيئاً حول هذه المواضيع. لكن أين هي السّجون التأهيليّة؟ لا نعرف عنها شيئاً. أين الدُّور التأهيليّة لتخليص بعض الشباب الضائع من السُكُر والعربدة والقتل؟ ما الحلّ إذاً لفهم المجتمع الجديد والصّبر على بعض الأمور للوقوف في وجه الخارج المتربّص سوءاً بنا وجعلنا نتخلّى عن الاشتراكيّة؟

حَولة الحسن

بعد هذا حككتُ رأسي لعلّ شيئاً ممّا هو غائرٌ في الذّاكرة يطفو على سطحها. وجدتُها! إنّها الشّقراء حاملة الشّمس على كتفيها، الرّياضيّة وممشوقة القدّ. تعرّفتُ إلى هذه الصّبيّة الجميلة في جامعة موسكو لومونسوف. خلال أحد الاجتماعات العامّة التي يُشارك فيها الطلّاب في كرسيّ التّخطيط التّابع لكلّيّة الاقتصاد السّياسيّ في الجامعة، جرى توزيع الطلّاب الرّوس على الأجانب وذلك بغرض مساعدة الطلاب الأجانب في اللّغة الرّوسيّة وغير ذلك أثناء كتابة الأطروحة. وصادف أنّ غالبيّة هؤلاء الطّلاب الروس إناث، وكان من نصيبي الفتاة الشّقراء.

أثناء تبادل الحديث وشرب الشّاي معها عرفتُ أنّها متفوّقة للغاية في إحدى الرّياضات، وعرفتُ أيضاً أنّهم لا يرسلونها للمشاركة في المباريات بين دول المعسكر الاشتراكيّ. سألتُها عن السّبب، فردّت بسؤالٍ هي الأخرى: ألا ترى ما في عينيّ؟ قلت: حَوَل، وما المشكلة؟ أجابت: عندنا لا يرسلون أمثالي. لا أستطيع أن أفهم أن يكون الحَوَل، أي ما نسمّيه «حولة الحسن»عندنا، حائلاً دون طموح الإنسان إلى التميّز وتبوّء المركز الأوّل. هل كانوا يريدون الوصول إلى استنساخ الإنسان الكامل جسديّاً وهم لم يتمكّنوا بعد من الوصول إلى الإنسان الاشتراكيّ تربويّاً؟ إنّه حقّاً لأمرٌ عجيب.

الخوف من الخارج!

صحيحٌ أنّ حقوق الانسان (بالمعنى الملموس المادّيّ) كانت مؤمّنة ومضمونة أكثر بكثير في الاتّحاد السوفياتيّ والبلدان الاشتراكيّة ممّا كانت عليه في البلدان الرأسماليّة. إلّا أنّ الواقع التّاريخيّ يبرهن أنّه لم يكن أمراً كافياً، على الرّغم من رخص الإيجار الشهريّ للسكن والنقل والاتّصالات (وغيرها كثير مع المعيشة المقنّنة إلى حدٍّ ما) لتعبئة موقف النّاس للدّفاع عن النظام كما كان يفترض ضدّ الانقلاب الذي حصل عليه من داخل النظام ذاته الذي وصفناه بالزلزال.

عاش مواطنو الاتّحاد السوفياتيّ حياةً مغلقةً على الخارج. المراسلة مع الخارج ممنوعة ولكن بشكلٍ غير رسميّ، بل بشكلٍ «تنبيهيّ» أو من خلال «لفت النظر» ولو كانت مجرّد مراسلة صداقة ومعايدة في مناسبات رأس السنة وعيد الميلاد وعيد الثورة وعيد الفصح وعيد العمّال إلخ. أمّا الأفلام المصوّرة في البلاد فقد مُنع أخذُها إلى الخارج غير محمّضة، وإذا ما حُمّضت لا يُسمح بإخراجها حتّى ولو كانت مصوّرة في أوروبّا الشرقيّة فكيف بالغربيّة؟ وهذا أمرٌ حصل معي شخصيّاً. كذلك الامر بالنّسبة إلى محطّات الراديو حينها والتي كانت لا تلتقط المحطّات الأجنبيّة. والشيء نفسه ينطبق على الرياضة، فلعب التّنس رياضة بورجوازيّة لذلك هي ممنوعة. وكذلك الأمر بالنّسبة إلى بعض أنواع الرقص كالـ «تويست» كونها غير موجودة في البرنامج الوطنيّ السوفياتيّ.

لمَ رفض الصّداقة مع الخارج؟ ممّ الخوف؟ أهو خوفٌ من الجاسوسيّة؟ أين التّربية الاشتراكيّة الجديدة؟ هل يمكن العيش بمعزلٍ عن العالم؟ إنّ كلّ ممنوعٍ مرغوب. وسّعوا فتحة النّافذة المطلّة على الخارج، كما كانت الأحوال قبل ستالين، وانشروا في السّوق السّلع الاستهلاكيّة البسيطة. وعلاج هذه الأمور هو بحبحة السّلع الاستهلاكيّة البسيطة وبالاستيراد مباشرةً لإشباع شبق الناس إليها.

على الرّغم من كلّ تلك السّلبيّات، يبكي الناس اليوم وبحسرة ومرارة على تلك الأيّام. حلّت النّيوليبراليّة اليوم محلّ ذلك النظام جرّاء الانهيار المفاجئ: زلزالٍ كبيرٍ دمّر كلّ ما بُني خلال سبعين عاماً، وتأتّت عنه مآسٍ لا تحصى. لقد عمّق الواقع الجديد الفوارق الاجتماعيّة، الأمر الذي جدّد التحفيز على النضال. يجب أخذ الدّروس اللّازمة من الحدث التّاريخيّ، وإن كان غير موفّقٍ، إن لم نقل غير ناجح، فهو مهمٌّ جدّاً، ولا ينبغي الاهتمام بالناحية الإيديولوجيّة للحدث فقط فهي لا تهمّ الناس البسطاء كثيراً بقدر الواقع الحياتيّ الملموس.

بانتظار موسيقى الاشتراكيّة

لا أودّ التّركيز فقط على السّلبيّ من موسكو وإن اتّخذ هذا المساحة الأكبر من ورقتي هذه. لموسكو حقٌّ عليّ في ذكر إيجابيّاتٍ عايشتُها خلال إقامتي فها، على رأسها الحياة الثّقافيّة والفنّيّة. عرفتُ الكثير عن تلك الحياة، فقد شاهدتُ الكثيرَ من المسرحيّات على مختلف أنواعها في هذه المدينة العامرة ثقافيّاً وفنّيّاً. لكن للأسف الشديد، لم يعد بإمكان الذّاكرة استرجاع أسماء المسرحيّات والمسارح. كذلك حضرتُ العديدَ من الحفلات الموسيقيّة الكلاسيكيّة إلى جانب الأوبرا والباليه على مسرح «البولشوي»، وتعني بالروسيّة «الكبير». كذلك زرتُ العديدَ من معارض موسكو للفنّ التشكيليّ وبانوراما الحرب والسّلم وكذلك درّة الفنّ التي هي المعرض الزّراعيّ في موسكو. ومن لا يزور هذا المعرض عندما تطأ قدماه هذه المدينة القويّة الصامدة في وجه عاديَات التاريخ منذ أيّام نابوليون حتّى اليوم؟ ولفت نظري في موسكو كذلك كثرة الـ«باركات»: بارك غوركي، والبارك الحربيّ وغيرهما، الحدائق الغنّاء ومنها حديقة الورود التي تعبق منها رائحةٌ زكيّةٌ بشكلٍ لا يزول من الذّاكرة.

بعيداَ عن الفنون والمسارح، شحنت مكتبةً كبيرة جدّاً بالبحر إلى لبنان، وتحوي مؤلّفات ماركس وإنغلز ولينين، ومعظمها باللغة الروسيّة، مع الكثير من الموسوعات في الجغرافيا والتاريخ والإحصاء وكذلك الروايات ذات الطبعات الأنيقة الفنّيّة الراقية، وهي نادرةٌ والبعض منها من طباعة هنغاريا.

حوَت تلك المجموعة الفنّية حوالي ٥٠ ألبوماً من الرّسوم التّشكيليّة المختلفة، وهي الوحيدة التي احتفظتُ بها من مكتبتي التي قدّمتُها إلى «الحركة الثقافية أنطلياس»، وما ذلك إلّا لأنّي أجد متعةً في مراجعتها وتقليب صفحاتها من وقتٍ إلى آخر.

ثمّة ضرورة لإقفال هذه المفكرة لجفاف الذاكرة التي أرّطبها بالعودة إلى صوَر موسكو والاتحاد السوفياتيّ من وقتٍ لآخر مع ألبومات الفنّ التشكيليّ وما تبقى لديّ من كراريس وخرائط السياحة في بلد الاشتراكيّة الأوّل فأفرح وأُسرّ بتذكّر أيّام موسكو التي أعتبرها من أثمن أيّام حياتي وأغناها. فقد جمعت فيها، إلى جانب اكتساب المعرفة، مرح الحياة والسياحة، متعة المتع بالنّسبة إليّ. وقد زرت ١٣ جمهوريّةً من تلك البلاد الشاسعة التي عادت متفرّقةً إلى سابق عهدها مع الأسف الشديد والحزن العميق. سأموت ولن أرى بلد الاشتراكيّة الأوّل يعود اشتراكيّاً بأسلوبٍ ديمقراطيّ. أغمض عينيّ على استحالة هذا الأمر، ولذلك استبدلت (ولو مؤقّتاً) الإشارة التاريخيّة للاشتراكيّة ووضعتْ كلمة «موسيقى» لنصبح أمام موسيقى الاشتراكيّة والتي سوف تشنّف آذان شعوب العالم، فقرائه وعمّاله وفلّاحيه وقد أصبحوا قابضين على ناصية بلادهم يعيشون في رفاهٍ محدود ولكنّه متقاسَم فيما بينهم جرّاء تطوّر التكنولوجيا اللامعقول (وهنا أتذكّر النبيل الفرنسيّ الكونت سان سيمون أهمّ اشتراكيّ طوباويّ) في عالمٍ يصبح معقولاً بفعل الإنسانيّة والـ«إتيك» الذي ينفذ إلى كلّ خلايا المجتمع الجديد. وأحد أهمّ تعريفات الـ«إتيك» في نهاية المطاف هو «تموضع الذات» وهذا ليس بالأمر السهل ويرقى العمل به الى مستوى «فوق إنسانيّ» إن جاز التعبير. وقليلون للغاية هم من يتّصفون به أمثال هو شي مِنه ولينين وتولستوي والأم تيريزا وأضرابهم. ولذلك فالتربية الاشتراكيّة يجب أن ترمي، ما أمكن الأمر، إلى تلك المرتبة النبيلة من ربط النظريّ بالعمليّ. هذا الهدف لا مثيل له. ولنعمل له إذا كنّا مخلصين للاشتراكيّة ومن ثَمّ الشيوعيّة. هذا مع الإشارة التاريخيّة إلى أنّ العكس هو الذي كان قد حصل عند رجال السلطة في الاتّحاد السوفياتيّ آنذاك، مع ستالين ومن أتى بعدَه. وهذا يمكن اعتباره بمثابة السبب العميق لعدم بناء الإنسان الاشتراكيّ الذي كان يمكن أن يقف في وجه الانقلاب على الاشتراكيّة. إنّه حلمٌ ليس إلّا وحتى في المستقبل المنظور. وإنهاء الكلام بحلمٍ أفضل شيءٍ أنّى يكن وقت حدوثه المستقبليّ.

عفواً، لقد أخطأتُ، فالحلم بدأ يتحقّق في كوبا وإن يكن في أوائل خطواته. ذلك أنّ كوبا الصامدة منذ أكثر من نصف قرن على بعد مسافة ٢٠٠ كلم من حدود الولايات المتّحدة الأميركيّة هي بمثابة نجم القطب الشماليّ على الأرض - منارة المستقبل تهدي من يريد أن يهتدي إلى اشتراكيّةٍ جديدة ذكرناها وشبّهناها بالموسيقى. وهذا أمرٌ ينطبق جيّداً على هذا البلد الحارّ الذي غدا مستشفى وكلّيّة طبّ وجامعة بالنسبة إلى أميركا الجنوبيّة وأفريقيا والعالم العربيّ وعلى رأسه فلسطين، وكلّ ذلك مجّاناً. وها هنا كوبا تذكّرنا بقائدها العظيم فيدل كاسترو ومثيله الإنسان العربيّ العظيم جمال عبد النّاصر. والإشارة والتلميح أمر كافٍ هنا ويُغني عن الشرح والإطالة.

إذاً صح الحلم فبالإمكان إسدال الستارة. توقّفت الموسيقى عن العزف. لم يصفّق الجمهور! أين هم الجمهور؟ إنّهم ممّن سيقرأني في المستقبل!

العدد ٢٢ - ٢٠١٩
وموسيقى المستقبل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.