العدد ٢٢ - ٢٠١٩

ماركس هجّاءً: الأدب مدخلاً لتلقّي ماركس

النسخة الورقية

1

مطالع أدبيّة

ليس ثمّة جديدٌ في المعلومات التي تشتمل عليها هذه المقالة، فهي متاحة - ولو بصورة مبعثرة - في معظم السِّيَر الكثيرة التي كُتِبَت عن ماركس، ومتاحة أكثر في الأعمال التي تناولتْ علاقته بالأدب والنظريّة الأدبيّة. ولعلّ الجديد يكمن في جمعها معاً واستكشافها على ذلك النّحو الذي يتيح اقتراح الأدب - كما هو واضحٌ في العنوان - مدخلاً أساسيّاً لا بدّ منه بين المداخل المتعدّدة لتلقّي ماركس وفهمه، شأنه شأن المدخل الفلسفيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والتاريخيّ والثقافيّ وسواه ممّا يندرج ضمن الفهم المادّيّ للتاريخ الذي يُعَدُّ جديدَ ماركس ومُنجزَه بين المفكّرين والمنظّرين.

حفل مطلع حياة ماركس بالكثير ممّا كان يهيّئه لحياةٍ أدبيّةٍ تتذكّر ابنته إليانور سماعها من عمّاتها «إنّه كان في طفولته طاغيةً مرعباً حيال أخواته، «يسوقهنّ» على أنّهنَّ جياد نزولاً من ماركوسبيرغ في ترير بأقصى سرعة، والأسوأ أنّه كان يجبرهنّ على أكل «الفطائر» التي صنعها من عجينٍ متّسخ بيدَيه الأشدّ اتّساخاً. لكنّهنَّ كنَّ يتحمّلن «سَوقهنَّ» وأكل «الفطائر» من دون أن ينبثن ببنت شفة، كرمى للحكايات التي كان يحكيها لهنَّ لقاء صنيعهنّ الحسن»1. وكان أترابه يخشَونه للسهولة التي كان يؤلّف بها الهجاء والأشعار الهجائيّة. كما كان يعرف، وهو طالب، أوفيد وشيشرون وتاسيتوس، فضلاً عن هوميروس وسوفوكليس وأفلاطون وثوكيديدس. ويبدو أنَّ أستاذاً موهوباً، هو فيتوس لويرس، كان قد نشر شروحاً لأوفيد، أفلح في أن يثير لديه حماسةً تجاه ذلك الشاعر أعقبتها محاولاتٌ لترجمة الـ Libri tristium [كتاب الأحزان] إلى الألمانيّة شعراً. أمّا والده فقد نمّى لديه تذوّق الكلاسيكيّات الألمانيّة التي عرفها القرن الثامن عشر، لا سيّما شيللر، في حين دفعه جارهم في ترير وعمّه اللاحق أبو زوجته، لودفيغ فون ويستفالن، إلى مشاطرته إعجابه بشكسبير وهوميروس. قالت إليانور لفلهم ليبكنخت: «كان لا يفتأ يحدّثنا عن البارون المسنّ فون ويستفالن ومعرفته العجيبة بشكسبير وهوميروس. كان بمقدوره تلاوة أغانٍ كاملة من هوميروس من ألفها إلى يائها، وكان يحفظ عن ظهر قلب معظم مسرحيّات شكسبير، بالإنكليزيّة والألمانيّة على السواء». وأضافت إليانور: «كان والد ماركس، من جهةٍ أخرى... فرنسيّاً حقيقيّاً» من القرن الثامن عشر، وكان يحفظ عن ظهر قلبٍ فولتير وروسّو كما كان العجوز فون ويستفالن يحفظ هوميروس وشكسبير2.

يكاد أن يكون مؤكّداً أنَّ مطامح ماركس الباكرة كانت مطامح أدبيّة. يقول أوغست كورنو: «لا شكَّ في أنَّ ماركس، الذي كان شديد الميل إلى الشعر ويحسّ بأنّه هو نفسه شاعر، كان يفضّل دراسة الأدب على دراسة الحقوق. وهذا يفسّر لماذا كان يتابع محاضراتٍ في الأدب وعلم الجمال إلى جانب محاضرات الحقوق»3. ويقول البروفسور س. س. براور: «قضى ماركس وهو طالبٌ جامعيٌّ، في بون أوّلاً ثمّ في برلين (1835 - 1841) وقتاً طويلاً ليس في دراسة التاريخ وحده، ولا الفلسفة ولا القانون، بل الأدب أيضاً. واستمع إلى محاضرات أ. و. شليغل عن هوميروس وبروبرتيوس، ومحاضرات ف. ج. ويلكر عن الأساطير اليونانيّة والرومانيّة، ومحاضرات برونو باور عن إشعيا، ونسخ كتابات لليسنغ وسولغر وفينكلمان في علم الجمال، وحاول أن يبقى على اتّصالٍ بكلِّ ما هو جديدٌ في الأدب، وطوّر أسلوبه بترجمة تاسيتوس وأوفيد، وانضمَّ إلى نادٍ للشعراء الشباب»4.

إخفاقات الشاعر والمسرحيّ

بل إنَّ ماركس كتب في هذه الفترة ديواناً شعريّاً ومسرحيّة شعريّة وروايةً عنوانُها «سكوربيون وفيليكس» أنجزها على عجلٍ وهو مفتونٌ برواية لورنس ستيرن تريسترام شاندي. لكنّه أخفق وأقرَّ بالهزيمة بعد هذه التجارب وشارف على الانهيار: «فجأةً... بضربةٍ ساحقة... تقوّضت إبداعاتي جميعاً وتلاشت... وكان لا بدّ من تنصيب آلهةٍ جديدة»5.

وبحسب فرانز مهرنغ، فإنَّ ماركس نفسه أصدر حكماً بالإدانة على أشعاره المهداة إلى خطيبته. ورأى مهرنغ نفسُه أنَّ تلك القصائد «تتكشّف...، بشكل عام، عن نَفَسٍ من الرومانسيّة التافهة، ونادراً ما يتخلّلها نَفَسٌ شعريٌّ حقيقيّ. وبالإضافة إلى ذلك فإنّها كانت من الناحية الفنّيّة خرقاء وبائسة»6. وكتبت لورا ماركس لافارغ إلى مهرنغ، وهي ترسل تلك القصائد إليه، إنَّ أبويها كانا يضحكان كثيراً بصددها حين يصادف أن يتحدّثا عنها7.

السؤال هنا، هل كان ماركس مجرّد متلقٍّ جيّد للأدب الجيّد، خالياً هو نفسه من المهارة الأدبيّة والموهبة الشعريّة؟ وعلى أيّ أساسٍ إذاً يعتبر كثيرون أنّه قُدِّرَ له لاحقاً أن يصبح كاتباً كبيراً تمكن مقارنته بلسنغ ونيتشه من حيث دقّةُ الأسلوب وقوّته والجمال الرائع لاستعاراته البلاغيّة والأدبيّة، كما قُدِّر لإحساسه الدقيق بالشعر أن يجعل منه المستشار مرهوب الجانب والمحبوب في الوقت ذاته لشعراء كبار مثل هنريش هاينه وف. فرايليغرات؟ الجواب، بحسب كورنو، أنَّ روح ماركس كانت حينئذٍ شديدة القلق والهموم، وخياله محموماً جدّاً، وأفكاره شديدة الاضطراب بحيث كان محتِّماً على شعره أن يضيع وسط الموج. وكان هو نفسه يعي ذلك، إذ وصف في رسالةٍ إلى والده محاولاتِه الشعريّة الأولى وإخفاقاته فيها: «في الجوّ الذهنيّ الذي كنت فيه حينئذ... وكما كان يحتّم الوضعُ الذي كنت فيه وكلّ تطوّري الفكريّ، كان [شعري] شعراً مثاليّاً بحتاً... واقعٌ ينطمس ويتبدّد إلى ما لانهاية له، واتّهامات ضدّ الآونة الحاضرة، ومشاعر غامضة ومشوّشة، وفقدانٌ تامّ للشيء الطبيعيّ، وتراكيب في الغيوم، وتعارضٌ مطلقٌ بين المثال والواقع، والبلاغة والحجج الفكريّة تحلّ محلّ الإلهام الشعريّ وربّما مع بعض الحرارة في المشاعر وبعض الانطلاق الوجدانيّ: تلك هي صفات دفاتر الشعر الثلاثة التي تلقّتْها جيني. ويتجسّد فيها، في وجوهٍ مختلفةٍ، كلّ لا نهاية رغبات ومطامح لا تعرف حدوداً... تعطي الشعر الذي يعبّر عنها طابعاً عديم الشكل»8.

واضحٌ، إذاً، حضور الأدب في حياة الفتى ماركس وأعماله على نحوين: أدب الآخرين وأدبه هو ذاته، إنّما المخفق. وسوف يتواصل هذا الحضور في حياته وأعماله الراشدة على النحوين ذاتهما، إنّما مع فارقَين في ما يتعلّق بأدبه الخاصّ: أوّلهما هو أنّ هذا الأدب سيكون منتثراً في أعماله التي لا تقتصر بأيّ حالٍ من الأحوال على كونها أدبيّة، بل التي تبدو في الظاهر وخطأً على أنّها أبعد ما تكون عن الأدب، وثانيهما، هو أنّه سينجح نجاحاً باهراً هذه المرّة. وما من تفسيرٍ لهذا النجاح سوى أنّ أفكار ماركس كانت قد تحوّلت منذ مغادرته الجامعة ذلك التحوّل الحاسم والشهير من المثاليّة إلى الماديّة، من المجرّد إلى الفعليّ.

2

أدب الآخرين لدى ماركس

يحضر أدب الآخرين في أعمال ماركس، لا سيّما في «رأس المال»، إلى جانب ما يحضر فيها من الأنثربولوجيا والاقتصاد السياسيّ والتاريخ وسوى ذلك من الفروع المعرفيّة والإبداعيّة الواسعة التي أحاط بها واعتاد أن يحشدها في كتاباته بأسلوب اصطفائيّ كلّيّ المعرفة. ويبدو وصف ماركس لديمقريطس في أطروحته للدكتوراه، «الفارق بين فلسفة ديمقريطس وفلسفة أبيقور»، أشبه بصورة له هو ذاته: «يصفه شيشرون بأنّه متبحّر تماماً. فهو كفوء في الفيزياء والأخلاق والرياضيّات وفي الفروع الموسوعيّة وفي كلّ فنّ»9.

وكان ماركس يقول في بعض الأحيان، وهو يشير إلى الكتب على رفوفه:

«أولئك عبيدي، ويجب أن يقوموا على خدمتي كما أشتهي». فمهمة هذه الكتب، أو قوّة العمل المجّانيّة هذه، كانت تتمثّل في أن توفّر له المادّة الخام التي يمكن عندئذٍ أن يشكّلها بحسب أغراضه. وكتب صحافي من الـ«شيكاغو تريبيون» زار ماركس عام ١٨٧٨ وأجرى معه لقاءً: «لا يجري حديث ماركس على غرار واحد، بل يتنوّع تنوّع الكتب على رفوف مكتبته. ويمكن عموماً أن نحكم على رجل من خلال الكتب التي يقرأها، وهذا ما يمكنكم أن تفعلوه باستنتاجاتكم الخاصّة حيث أقول لكم إنَّ نظرة عابرة قد كشفت عن شكسبير وديكنز وثاكري وموليير وراسين وبيكون وغوته وفولتير وبِنْ، وعن كتب زرقاء إنجليزيّة وأميركيّة وفرنسيّة، وعن أعمال سياسيّة وفلسفيّة بالروسيّة والألمانيّة والإسبانيّة والإيطاليّة، إلخ...إلخ»10. وفي العام ١٩٧٦، وضع البروفسور س. س. براور كتاباً في نحو ٤٥٠ صفحة مكرّساً بأكمله لإحالات ماركس الأدبيّة. ففي المجلّد الأوّل من «رأس المال» نجد مقتبسات من الكتاب المقدّس وشكسبير وغوته وملتون وفولتير وهوميروس وبلزاك ودانتي وشيللر وسوفوكليس وأفلاطون وثوكيديدس وزينوفون وديفو وسرفانتس ودرايدن وهاينه وفيرجيل وجوفينال وهوراس وتوماس مور وصموئيل بتلر، فضلاً عن إلماعات إلى قصص الرعب التي تحكي عن المستذئبين ومصّاصيّ الدماء، والقصص الشعبيّة الألمانيّة والروايات الرومانتيكيّة الإنكليزيّة والأغاني الشعبيّة والعاديّة والمقفّاة وصنوف الميلودراما والهزليّات والأساطير والأقوال المأثورة.

استحضار الادب في نقد رأس المال

ما من مناسبة إلّا ويمكن لماركس أن يقتبس بصددها من الأدب العالميّ: لدكّ معاقل خصم: على نحو ما يهاجم ماركس أولئك الاقتصاديّين المغرمين بمثال روبنسن كروزو والذين يؤمنون بنماذج ومقولات فات زمنها شأنهم شأن دون كيخوته الذي «دفع ثمن تصوّره الخاطئ أنّ الفروسيّة الجوّالة تتلاءم بالقدر ذاته مع جميع الأشكال الاقتصاديّة للمجتمع»11،أو لبثّ الحياة في تجريدٍ فاقدٍ للحياة: كما يحصل حين يستعير من «فاوست» لغوتّه كي يصوّر ما يجنيه الرأسمالي من لقاء العمل الحيّ بالموادّ الميّتة: «إنّ الرأسماليّ إذ يحوّل نقده إلى سلَع تخدم كموادّ بناءٍ لمنتوجٍ جديد، أي عناصر ماديّة لعمليّة العمل، ويلقّح المادّة المتشيّئة الميّتة بالعمل الحيّ، فإنّه يحوّل القيمة، قيمة العمل الماضي المتشيّئ، الميّت، إلى رأس مالٍ، إلى قيمةٍ حبلى بالقيمة، إلى وحشٍ مفعم بالحيويّة، يشرع في «العمل» وكأنّه جسدٌ مولّه بالغرام»12، أو كما يحصل حين يتكلّم رأس المال ذاته بلسان شايلوك مبرّراً استغلال عمل الأطفال في المصانع: «احتجّ العمّال ومفتّشو المصانع، انطلاقاً من اعتباراتِ الأخلاق والصحّة، لكنّ رأس المال أجاب: فليقع عبء أفعالي على أمّ رأسي! القانون مبتغاي! الجزاء والرهن حسب العقْد... أجل لحم قلبه / هكذا ينصّ العقد»13، أو لإثبات شيء: على نحو ما يثبت أنَّ النقد هو ذلك المساواتيّ الراديكاليّ الذي يمحو جميع الفروق بإيراد خطبة من تيمون الأثينيّ لشكسبير عن الذّهَب بوصفه «مومس الجنس البشريّ»، تتلوها خطبة من أنتيغونا لسوفوكليس: «ما من شيءٍ شاع بين الناس أكثر شرّاً من المال، يهدّم المدن ويطرد النّاس من بيوتهم. يغوي ويفسد أجمل النفوس نحو كلّ ما هو عارٌ، ويعلّم الناس إتيان الفسق والفجور»14، أو ليُحْكِم فكرةً من الأفكار يريد لها أن تبقى في الذهن: كما حين يصوّر القيد الذي يربط العامل إلى رأس المال ويجعل بؤسه شرطاً ضروريّاً لثروة الآخرين بأنّه «أشدّ من تقييد مطرقة هيفايستوس لبروميثيوس إلى الصخرة»15، أو حين يصوّر اغتراب العامل عن عمله في مخطوطات ١٨٤٨ فيلجأ إلى واحد من أحبّ الأعمال إليه، ألا وهو فرانكشتاين، حكاية المسخ الذي انقلب على خالقه، كي يصوّر كيف يغدو عمل العامل «كينونةً» خارجيّة توجد خارجه، منفصلةً عنه وغريبة عليه، وتأخذ بمواجهته كقوّة مستقلّة: ذلك أنّ الحياة التي وهبها للموضوع توجد كقوّة معاديّة وغريبة16، وهذا ما يتكرّر في «رأس المال» بعد أكثر من عشرين سنة حيث يرى أنَّ الوسائل التي ترفع الرأسماليّةُ الإنتاجيّةَ من خلالها «تشوّه العامل وتحيله إلى كسرة من حطام إنسان، وتنزل به إلى درك ملحقٍ تابع للآلة، وتدمّر المضمون الإيجابيّ لعمله بما تضفي عليه من عذاب، وتستلب منه الطاقات الذهنيّة الكامنة في عمليّة العمل... وتحوّل أيّام حياته كافّة إلى وقت عمل، وتقذف امرأته وأطفاله تحت عجلات... رأس المال»17، أو حين يستحضر جحيم دانتي ليصف مصانع الكبريت الإنكليزيّة، حيث نصف العمّال من اليافعين (بعضهم في السادسة من العمر) والظروف مرعبة لدرجة أنّ ذلك الجزء الأبأس من الطبقة العاملة والأرامل على حافّة المجاعة وحدهم من يلقون أطفالهم فيها: «يتراوح يوم العمل بين ١٢ و١٤ ساعة، أو يمتدّ إلى ١٥ ساعة، مقروناً بعملٍ ليليٍّ، وعدم انتظام أوقات الطعام والوجبات، وغالباً ما يأكلون الوجبات في ورش العمل نفسها المسمّمة بالفوسفور. وكان حريّاً بدانتي أن يرى في عذابات هذه الصناعة ما يفوق أسوأ العذاب الذي تخيّله في جحيمه»18.

3

أدب ماركس بالخاصّة

ليس ما سبق سوى غيضٍ من فيضِ حضور أدب الآخرين في أعمال ماركس. والآن، ماذا عن أدب ماركس الراشد نفسه؟ ماذا عن المكانة الأدبيّة لأعماله ذاتها؟

أوّل ما يلفت الانتباه هو أنّه بدلاً من ماركس الفتى الذي يقرّ بإخفاقه الأدبيّ نجد هنا ماركس الناضج الذي يكتب إلى إنغلز في تموز / يوليو ١٨٦٥: «والآن، في ما يتعلّق بعملي، سوف أفضي إليك بالحقيقة الواضحة. مهما تكن العيوب القائمة في كتاباتي، فإنَّ مزيّتها تكمن في أنّها كلٌّ فنيّ»19. وإزاء مثل هذا القول الذي يتكرّر بأشكالٍ عديدة، يبقى مدهشاً اقتصار مَن التقطوا أدبيّة ماركس على قلّة قليلة بين الكثرة الكاثرة التي كتبتْ عن حضور كلّ شيء في أعماله ما عدا الأدب.

يجد الناقد والمفكر الأميركيّ مارشال بيرمان في كتابه كلّ ما هو صلب يتحوّل إلى أثير: تجربة الحداثة20 أنَّ وصف ماركس الشهير للانخلاع في «البيان الشيوعيّ» - «كلّ ما هو صلب يتحلّل ويتحوّل إلى أثير» - قريبٍ مما هُيّئنا لأن نجده لدى رامبو أو نيتشه، لدى ريلكه أو ييتس وما قاله هذا الأخير عن «الأشياء [التي] تتداعى، والمركز [الذي] لا يقوى على الثبات»21. ويرى بيرمان في كتابه الآخر «مغامرات في الماركسيّة» أنّ ثمّة انفتاحاً للنهايات في أعمال ماركس يصله بعصرنا، وأنَّ «رأس المال» يفوق الأعمال الحسنة التي شهدها القرن التاسع عشر الذي عاش فيه ماركس باتجاه حداثة القرن العشرين22. وأنّه بدلاً من اعتبار ما في «رأس المال» من سردٍ متشظٍّ وتقطّع جذريّ ضرباً من الشواش والاستغلاق فإنَّ ماركس، حين كتب «رأس المال»، اندفع أبعد من النثر التقليديّ باتّجاه كولّاج راديكاليّ، جاور فيه بين أصواتٍ ومقبوساتٍ من الأسطورة والأدب، من تقارير مفتّشي المصانع والحكايات الخرافيّة، على طريقة إزرا باوند في «الكانتوس» أو ت. س. إليوت في «الأرض اليباب»23.

أمّا مؤلّف «رأس المال» فهو «واحد من العمالقة العظماء المعذّبين في القرن التاسع عشر إلى جانب بيتهوفن وغويا وتولستوي ودوستويفسكي وإبسن ونيتشه وفان غوخ، ممّن دفعوا بنا صوب الجنون، كما دفعوا أنفسهم، لكنَّ عذابهم ولّد قدراً كبيراً من الرأسمال الروحيّ الذي لا نزال نعتاش عليه»24. بيد أنَّ ذلك كلّه يبقى كلاماً عامّاً خارجيّاً لا يُظهر أدب ماركس ذاته إظهاراً ناصعاً. ولعلّنا نحتاج إلى التركيز على عملٍ بعينه تركيزاً مفصّلاً كي تظهر تلك الأدبيّة بأكمل الوضوح.

أمثولة المعطف والمنضدة

يحذّر ماركس قرّاء «رأس المال» منذ البداية من أنّهم يطأون أرضاً فانتازيّة يختلف فيها جوهر الأشياء أو حقيقتها عن مظهرها أو سطحها الخادع. يقول ماركس في الجملة الأولى من «رأس المال»: «تبدو ثروة المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسماليّ وكأنّها «تكدّس هائلٌ من السلَع»، وتبدو السلعة المفردة كأنّها الشكل الأوليّ لهذه الثروة»25. وما تعنيه هذه الـ «تبدو» وهذه الـ «كأنّها» هو أنّنا ندخل عالَم مظاهر خادعة وأشباح وأطياف. وصفحات «رأس المال» تعجُّ بعباراتٍ مثل «واقعٍ شبحيّ»، و«شبح وهميّ»، و«وهم محض»، و«شبه كاذب»، فلا يمكن كشف الاستغلال الذي تعتاش عليه الرأسماليّة إلّا باختراق أحجبة الوهم هذه بتوسّل جميع الأسلحة المتاحة ومن بين أهمّها الأدب والشكل الأدبيّ. فكي يوضّح ماركس وجهَي العمل أو جانبَيه الملموس والمجرّد نجده يغرق في تأمّلٍ مُسهَب للقيَم النسبيّة لمعطف وعشرين ياردة من القماش. يقول ماركس: «المعطف، حين يوضع في علاقة قيمةٍ مع القماش، يعني شيئاً أكثر ممّا يعنيه خارج هذه العلاقة، تماماً مثلما يُعتبر الرجل الذي يتبختر ببزّة رسميّة مُذهَّبة أكثر أهميّةً منه بدونها»26. فالقماش، بوصفه قيمة استعماليّة، شيء مختلف عن المعطف ذلك الاختلاف الملموس، أمّا بوصفه قيمة تبادليّة، فهو الشيء ذاته في حقيقة الأمر، تعبير عن عملٍ مجرّد. «يكتسب القماش شكل قيمة يختلف عن شكله الطبيعيّ. ويتجلّى وجوده بوصفه قيمةً من واقعِ مساواته مع المعطف، تماماً مثلما أنّ الطبيعة الخروفيّة للمسيحيّ تظهر من خلال شبهه بـ حَمَل الربّ»27. ويلاحظ ماركس، في آخر حكايته المتكرّرة المنهكة عن القماش والمعطف: «تبدو السلعة للوهلة الأولى شيئاً مبتذلاً جدّاً يُفهم من ذاته. أمّا تحليل السلعة فيبيّن أنّها، في واقع الأمر، شيءٌ غريب جدّاً زاخر بالأحابيل الميتافيزيقيّة والحذلقات اللاهوتيّة»28.

وحين يرصد رحلة الخشب من كونه مجرّد خشب إلى كونه منضدة تنزل السوق، يجد أنَّ هذا الخشب، حين يتحوّل إلى منضدة، يبقى خشباً على الرّغم من ذلك، أي يبقى ذلك الشيء العاديّ المحسوس. لكنّه حين يغدو سلعةً يتحوّل إلى شيءٍ عصيّ على الأفهام. فالمنضدة «لا تكتفي بوضع أرجلها على الأرض، بل تقف على رأسها إذا جاز التعبير، إزاء السلع الأخرى، ويبدأ رأسها الخشبيّ بإطلاق أفكارٍ غريبة، تفوق في الغرابة «رقص المناضد» من تلقاء ذاتها»29.

هكذا يخفي السوق والتبادل العلاقة الاقتصاديّة الاجتماعيّة بين البشر وما تعكسه السلَع المختلفة من عمل منتجيها ليُلْبَس ذلك كلّه «شكلاً خياليّاً بصورة علاقة بين الأشياء». ولا يجد ماركس شبهاً لهذا التحوّل الغريب إلّا في عالم الدين الملفّع بالضباب: «ففي هذا العالم تظهر منتوجات الدماغ البشريّ [أي الآلهة] بهيئة كائنات مستقلّة تتمتّع بالحياة، وتدخل في علاقاتٍ بعضُها مع بعض ومع الجنس البشريّ. وهكذا أيضاً شأن منتوجات يد الإنسان في عالم السلع. هذا ما أسمّيه الصنميّة (الفيتيشية) التي تلتصق بمنتوجات العمل منذ أن يتمّ إنتاجها كسلع...»30، حيث الصنم، بمعناه الدينيّ، شيء يُجَلُّ ويُهاب لما يُنسَب إليه من قوى فوق طبيعيّة. وصنميّة السلعة عند ماركس، تمثّل «سيطرة الأشياء على الإنسان، سيطرة العمل الميت على العمل الحيّ، سيطرة المنتوج على المنتِج»31.

وحين يحاول ماركس أن يبيّن من أين تأتي القيمة الزائدة، يتفحّص هذا اللغز من منظورٍ رأسماليٍّ تحت التمرين يُدْعى «مالك النقد» قبالة عاملٍ يُدْعى «صاحب قوّة العمل»، يرصدهما في فصلٍ عنوانُه «يوم العمل» هو أطول فصلٍ في المجلّد الأوّل من رأس المال، وهو عبارة عن خلاصةٍ لعددٍ من قصص الرعب، يضعها ماركس في إطارٍ يناسبها من الأسلوب القوطيّ. يقول في الفقرات التمهيديّة: «رأس المال عمل ميّت، وهو كمصّاص الدماء، لا يعيش إلّا على امتصاص العمل الحيّ، ويزداد حيوية كلّما يرتشف المزيد»32.

في منتجات المجرِم

ولعلّ أدبيّة ماركس تبلغ واحدةً من أعلى ذُراها وأرهفها في الهجاء والسخرية اللذين تنطوي عليهما تلك المقاطع من الجزء الرابع من «رأس المال» الذي يتناول فيه «نظريّات القيمة الزائدة» ومحاولات الاقتصاديّين الكلاسيكيّين التمييز بين العمل «المُنْتِج» والعمل «غير المُنْتِج». وكان آدم سميث قد أدْرَجَ في هذا الصنف الأخير كلاً من «رجال الكنيسة والمحامين والأطبّاء ورجال الأدب بأنواعهم والممثّلين والمهرّجين والموسيقيّين ومغنّي الأوبرا وراقصيها، إلخ»33، وجميعهم «يعتاشون على جزءٍ من النتاج السنويّ لكدّ بشر آخرين». لكن هل التمييز بمثل هذا الوضوح وهذه البساطة حقّاً؟ يشير ماركس إلى أنَّ كلّ مهنة يمكن تصوّرها يمكن أن تكون مُنْتِجةً، ويشرع في محاولةٍ لإثبات ذلك من خلال مثالٍ يبدو مضحكاً وسخيفاً:

«يُنْتِج الفيلسوف أفكاراً، والشاعر قصائد، ورجل الدين عِظاتٍ، والأستاذ الجامعيّ كُتُباً وهلمّ جرّا. وينتج المجرم جرائم. وإذا أمعنّا النظر في الصلة بين هذا الفرع الأخير من الإنتاج والمجتمع ككلّ، فسوف نَطْرح عنّا كثيراً من ضروب التحيّز. فالمجرم لا ينتج الجرائم وحسب بل القانون الجنائيّ، ومعه الأستاذ الجامعيّ الذي يلقي محاضرات في القانون الجنائيّ وعلاوةً عليها الكتاب الأكيد الذي يطرح فيه هذا الأستاذ الجامعيّ محاضراته في سوق «السلع» العام...».

بل إنَّ المجرم ينتج الشرطة برمّتها والقضاء الجنائيَّ بأكمله، بحاكميه وقضاته وجلاّديه ومُحَلَّفيه، إلخ، وجميع خطوط الأعمال المختلفة هذه، والتي تشكّل بالمثل كثيراً من أصناف التقسيم الاجتماعيّ للعمل، تطوّر قدرات مختلفة يتمتّع بها الروح الإنساني، وتخلق حاجاتٍ جديدةً وسبلاً جديدةً لإرضائها. فقد أدّى التعذيب وحده إلسى نشوء أشدّ الاختراعات الميكانيكيّة براعةً، واستخدم كثيراً من الحرفيّين الأفاضل في إنتاج أدواته. والمجرم يُنْتِج انطباعاً، أخلاقيّاً من ناحيةٍ وتراجيديّاً من ناحيةٍ أخرى، بحسب الحالة، وبذلك يقدّم «خدمة» عبر إثارته مشاعر الجمهور الأخلاقيّة والجماليّة. فهو لا ينتج كتباً في القانون الجنائيّ فحسب، ولا قوانين العقوبات ومعها التشريعات اللازمة في هذا المجال فحسب، بل الفنّ أيضاً، والآداب الجميلة، والروايات، وحتى التراجيديّات، الأمر الذي لا تبيّنه الخطيئة لمولنر واللصوص لشيللر فحسب، بل أيضاً أوديب لسوفكليس وريتشارد الثالث لشكسبير. والمجرم يكسر رتابة الحياة البرجوازيّة وأمنها اليوميّ. وهو يُبْعِدها بهذه الطريقة عن الركود، ويولّد ذلك التوتّر القلق والخفّة التي من دونها لتبلّد حافز التنافس ذاته...

«يمكن أن نبيّن على نحوٍ مُفَصَّل ما يتركه المجرم من آثار ومفاعيل في تطوّر القدرة الإنتاجيّة. فهل كانت الأقفال لتبلغ قطّ ما بلغتْه الآن من درجات الإتقان لو لم يكن هنالك لصوص؟ وهل كانت صناعة الأوراق النقديّة لتبلغ ما بلغتْه اليوم من الكمال لو لم يكن هنالك مزوّرون؟... وإذا ما تركنا عالم الجريمة الخاصّة: فهل كانت السوق العالميّة لتبرز إلى الوجود قطّ لولا الجريمة الوطنية؟ بل هل كانت لتَنْشَأ الأوطان ذاتها، ألم تكن شجرة الخطيئة في الوقت ذاته شجرة المعرفة منذ أيّام آدم؟».

4

مفارقة ساخرة وهزءٌ وهجاء

هذه المقاطع عن دور المجرم في التاريخ هي التي دفعت ناقداً ومفكراً أدبيّاً مثل إدموند ولسون إلى استحضار عمل الهجّاء والساخر العظيم جوناثان سويفت الموسوم «اقتراح متواضع» والذي سعى فيه إلى مداواة بؤس أيرلندا بإقناع الفقراء الجائعين بالتهام صغارهم الزائدين. وهي وأمثالها ما دفع ولسون إلى تشبيه ماركس بصاحب رحلات غاليفر: «أصبح ماركس من أكبر كتّاب السخرية. ومن المؤكّد أنّه أعظم كاتب ساخر، بعد سويفت، وفيه شبَهٌ كبير منه»34. وكتاب «رأس المال»، على نحو خاصّ، مُفْعَمٌ بالسخرية إلى درجةٍ دفعتْ إدموند ولسون لأن يرى أنَّ قيمة تجريدات ماركس - رقص السلع، والقطبة المتصالبة الحمقاء التي تتّصف بها القيمة - هي قيمةٌ تقوم على السخرية في المقام الأوّل، تلك السخرية التي تبرز إذْ توضع بجوار مشاهد البؤس والفحش المروِّعة والموثَّقة جيّداً ممّا تخلقه القوانين الرأسماليّة عمليّاً وفي الممارسة. كما يعتبر ولسون كتاب «رأس المال» ضرباً من المحاكاة التهكّميّة الساخرة للاقتصاديّين الكلاسيكيّين، فما إنْ نقرأه حتى تكفّ الأعمال التقليديّة في الاقتصاد عن الظهور لنا كما كانت تظهر من قبل: إذ يغدو بمقدورنا على الدوام أن نرى من خلال حججها وأرقامها وقائع العلاقات البشريّة العارية الصريحة التي يتمثّل غرض تلك الأعمال أو مفعولها في إلقاء قناعٍ عليها. ويعتقد ولسون أنَّ ما من أحد سبق له أن امتلك على هذا النّحو المفرط مثل هذا التبصّر السيكولوجيّ في قدرة الطبيعة البشريّة اللامتناهية على البقاء نسَّاءةً ولا مبالية إزاء الآلام التي ننزلها بالآخرين حين تسنح لنا فرصة أن ننتزع منهم لأنفسنا شيئاً ما35.

وإلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من إمكانيّة قراءة «رأس المال» على أنّه رواية قوطيّة يستعبد أبطالها ويستنزفهم وحش خلقوه بأنفسهم («رأس المال الذي يأتي إلى العالم ملوَّثاً من رأسه إلى أخمص قدميه بالدماء التي تنزّ من جميع مسامّه»)، تمكن قراءته أيضاً على أنّه ميلودراما فيكتوريّة، كما رأى ستانلي هيمان في دراسته عن داروين وماركس وفريزر وفرويد بوصفهم كتّاباً مبدعين والمنشورة عام 36١٩٦٢، أو على أنّه تراجيديا إغريقيّة: «فالفاعلون في إعادة ماركس تلاوة التاريخ الإنسانيّ واقعون، مثل أوديب، في قبضة ضرورة لا تلين تتجلّى وتتكشّف مهما فعلوا»، كما يقول سي. فرانكل في كتابه ماركس والفكر العلميّ المعاصر37، أو على أنّه هزليّة ساخرة سوداء (ففي فضح زيف «الواقع الشبحيّ» الذي تتّسم به السلعة بغية تبيان الفارق بين المظهر البطوليّ والواقع المخزي، يستخدم ماركس إحدى الطرائق الكلاسيكيّة التي تستخدمها الكوميديا، حيث تجري تعرية الفارس الأنيق من دروعه ليتكشّف في سراويله التحتانيّة عن رجلٍ قصير وبدين)، كما تمكن قراءته على أنّه يوطوبيا هجائيّة مثل بلاد الهوينوهمز (الجياد العاقلة) في رحلات غاليفر، حيث الأشياء جميعاً تبعث على السرور ما عدا الإنسان الشرّير. ففي رواية ماركس عن المجتمع الرأسماليّ، كما في الفردوس الزائف الذي أقامتْه الجياد في عمل جوناثان سويفت، تُخْلَق الجنّة الزائفة من خلال الحطّ من قيمة البشر العاديّين إلى منزلة الياهو العاجزين والمغتربين38.

الأدب للانتقال من المظهر إلى الجوهر

الهجاء عند ماركس أسلوبٌ وشكلُ كتابةٍ قديم. فكتاباته الصحافيّة تتّسم بقتاليةٍ متهوّرة تفسّر قضاءه معظم حياته الراشدة في المنفى وفي عزلة سياسيّة. فأوّل مقالة كتبها في الجريدة الرينانيّة كانت هجوماً جارحاً على ما اتّسم به الحكم البروسيّ المطلق من انعدامٍ للتسامح وما اتّسم به خصومه الليبراليّون من بلاهةٍ وحُمق. ولم يكتفِ بما أَوْجَدَهُ من أعداءٍ في الحكومة والمعارضة على حدٍّ سواء، فانقلب على رفاقه أيضاً، واتّهم الهيغليّين الشباب بأنّهم «أفظاظ وأوغاد». ولم يمضِ شهران على تولّيه مسؤوليّة تحرير الجريدة، حتى طلب حاكم الإقليم من وزير الرقابة في برلين أن يقاضيه على «نقده الوقح الصفيق». بل إنّ القيصر الروسيّ نيكولا شخصيّاً رجا ملك بروسيا أن يوقف الجريدة الرينانيّة، التي أثارت سخطه بنقدها الساخر والعنيف لروسيا. وفي آذار / مارس من العام 1843 أُغْلِقَت الجريدة في الوقت المناسب. وهكذا كان ماركس قد امتلك في الرابعة والعشرين من عمره قلماً قادراً على ترويع رؤوس أوروبا المتوَّجة وإثارة غيظها. أمّا بالنسبة إلى كتبه، فنجد أنَّ «بؤس الفلسفة» هو خطبة لاذعة في ١٠٠ صفحة يقرّع فيها بيير جوزيف برودون، وأنّ أبطال المنفى هو أهجية مطنبة لـ «أبرز حمير» الشتات الاشتراكيّ و«أوغاده الديمقراطيّين»، والتاريخ الدبلوماسيّ السرّيّ للقرن الثامن عشر هو خطبة عنيفة وطويلة ضدّ روسيا، وقصّة حياة اللورد بالمرستون محاولة لإثبات أنّ وزير الخارجية البريطانيّ كان عميلاً للقيصر الروسي، و«الهِرّ فوغت» هجوم كاسح على أستاذٍ للعلوم الطبيعيّة في جامعة بيرن أثار حنق ماركس إذْ وصفه بالدجّال والطفيليّ. وردّ ماركس: «واحدة بواحدة، والانتقامات تجعل العالم يدور».

وبعد الانقلاب الفرنسيّ في تشرين الأوّل / أكتوبر ١٨٥١، كتب ماركس «الثامن عشر من بروميير لوي بونابرت» الذي وصفه فيلهلم ليبكنخت بأنّه «سهمٌ منطلق مباشرة نحو الهدف ومنغرز في الجسم... رمح تطلقه يد ماهرة ويصيب العدوّ في القلب... كلماته سهامٌ ورماح، وأسلوبه يصم ويقتل. وإذا ما كان الحقد والاحتقار والشغف بالحرية قد وجدتْ تعبيراً عنها بكلماتٍ حارقة وفاتكة وشامخة، فإنّ ذلك في هذا الكتاب الذي يجمع بين صرامة تاسيتوس الساخطة ونكتة جوفينال القاتلة وغضب دانتي المقدّس». وهو إذ يقارنه بعمل فيكتور هوغو «نابليون الصغير» الذي يتناول الموضوع ذاته، يجد هذا الأخير «رغوة سطحيّة زاهية الألوان» وأنّه على الرغم من صدوره بطبعاتٍ عديدة الواحدة تلو الأخرى، هو الآن منسيّ، في حين سوف يُقرَأ «الثامن عشر من برومير» لماركس بكلّ إعجاب لآلاف السنين39.

كانت العداوات والجدالات عند ماركس تدخّلات سياسيّة أساسيّة لا مجرّد تجليّات للغضب والاستياء. وأبعد وأرفع من ذلك بكثير كان الهجاء والسخرية تقنيتين تزيحان الواقع الظاهر بغية الكشف عن أسراره الأثيمة. ويبقى السؤال الأهمّ هو ما الصلة بين خطاب ماركس الأدبيّ، لا سيّما الساخر والهجّاء وما أراد أن ينجزه من مهمّات نظريّة وفكريّة؟ سبق لماركس أن قال إنّه لو تطابق جوهر الأشياء ومظهرها لانتفى العلم وأصبح مستحيلاً. والأدب عند ماركس، عدا عن كونه إبداعاً وإمتاعاً، هو مثل العلم، وسيلة ندلف بها من المظهر إلى الجوهر، من الفهم الشائع أو ما يُدعى خطأ بالحسّ السليم إلى حقيقة الأشياء، إلى حقيقة أنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، وأنَّ الماء يتألّف من غازين قابلَين للاشتعال.

وفي مثل هذه القراءة، لا يعود الأسلوب الأدبيّ الذي يتبنّاه ماركس قشرةً خارجيّة ملوّنة توضع فوق لوح العرض الاجتماعيّ الاقتصاديّ التاريخيّ الذي كان سيبدو منفّراً لولاها، بل يغدو لغة ملائمة، وحيدة في بعض الأحيان، للتعبير عن «طبيعة الأشياء الخادعة»، ومشروعاً كيانيّاً [أنطولوجيّاً] لا يمكن تقييده بحدود وأعراف جنسٍ قائمٍ كالاقتصاد السياسيّ، أو الأنثروبولوجيا، أو التاريخ. وباختصار، فإنّ الأدب بعد أساسي من أبعاد فهم ماركس المادّيّ للتاريخ، وهو بذلك مدخلٌ لتلقّي ماركس لا غنى عنه، الأمر الذي يقتضي تمحيصاً أوفى لمفاعيل المفارقة السخرة (Irony) وآثار التهكّم والهجاء كصنعات أدبيّة.

  • 1. Eleanor Marx, from: «Recollections of Mohr» (1895), in Marx & Engels, On Literature & Art: a selection of writings, ed., Lee Baxandall & Stefan Morawski (St. Louis / Milwaukee: Telos Press,1973), p. 147 انظر ترجمة عربيّة لذكريات ابنة ماركس هذه عن والدها في: إيليونورا ماركس - إيفلنغ، «كارل ماركس (ملاحظات موجزة)»، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما، ترجمة سليم توما (موسكو: دار التقدم، 1985)، ص 136
  • 2. انظر: S. S. Prawer, Karl Marx and World Literature, (London and New York: Verso, 1976, 2011), pp. 1 - 2 وانظر: ولهلم ليبكنخت، «من ذكريات عن ماركس»، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما، ص 381 - 382
  • 3. أوغست كورنو، ماركس وإنجلز: حياتهما وأعمالهما الفكريّة، المجلّد الأوّل: سنوات الحداثة والشباب، اليسار الهيغليّ، 1818 - 1844، ترجمة محمّد عيتاني (بيروت: دار الحقيقة، من دون تاريخ للنشر)، ص 80
  • 4. Brawer, pp. 3 - 4
  • 5. فرانسيس وِينْ، رأس المال لكارل ماركس: سيرة، ترجمة: ثائر ديب (الرياض: العبيكان للنشر، 2007)، ص 20
  • 6. فرانز مهرنغ، كارل ماركس: تاريخ حياته ونضاله، ترجمة خليل الهندي (بيروت: دار الطليعة، 1972)، ص 16
  • 7. كورنو، ص 86
  • 8. المصدر ذاته، ص 87 - 88
  • 9. فرنسيس وين، ص 22
  • 10. المصدر ذاته، ص 100 - 101
  • 11. كارل ماركس، رأس المال، المجلد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ترجمة: فالح عبد الجبار (بيروت: دار الفارابي، 2013)، ص 111، 117
  • 12. المصدر ذاته، ص 253
  • 13. المصدر ذاته، ص 368 - 369
  • 14. المصدر ذاته، ص 175
  • 15. المصدر ذاته، ص 792
  • 16. كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة: محمد مستجير مصطفى (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1974)، ص 77
  • 17. ماركس، رأس المال، المجلد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ص 792
  • 18. المصدر ذاته، ص 315
  • 19. نظر: فرنسيس وين، رأس المال لكارل ماركس: سيرة، ص 14
  • 20. Marshall Berman, All That Is Solid Welts Into Air: The Experience of Modernity (London and New York: Penguin Books,1988) كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قد صدرت عام1982في الولايات المتحدة الأميركية لدى Simon & Schuster. وصدرت ترجمته العربية بعنوان حداثة التخلف: تجربة الحداثة، ترجمة: فاضل جتكر (قبرص: مؤسسة عيبال، 1993)، ثم صدرت في طبعة ثانية بعنوان كلّ ما هو صلب يتحول إلى أثير: تجربة الحداثة وحداثة التخلف (دمشق: دار كنعان، 2016)
  • 21. Berman, All That Is Solid Welts Into Air, p. 89
  • 22. Marshall Berman, Adventures in Marxism (London and New York: Verso،1999), p. 34
  • 23. المصدر ذاته، ص 33
  • 24. المصدر ذاته، ص 85
  • 25. ماركس، رأس المال، المجلّد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ص 63. لا يتطابق المقبوس الوارد هنا تمام التطابق مع الترجمة في هذا المرجع، حيث يغيّب هذا الأخير «تبدو»و«كأنها» في الجملة الثانية بخلاف الترجمة الإنكليزيّة
  • 26. المصدر ذاته، ص 82
  • 27. المصدر ذاته، ص 83
  • 28. المصدر ذاته، ص 104
  • 29. المصدر ذاته
  • 30. المصدر ذاته، ص 106
  • 31. المصدر ذاته، ص 1074. انظر أيضاً: كارل ماركس، نتائج عمليّة الإنتاج المباشرة (الجزء المجهول من رأس المال)، ترجمة: فالح عبد الجبار (مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي)، ص86
  • 32. ماركس، رأس المال، المجلد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ص 297
  • 33. انظر هذا المقبوس والمقبوسات التي تليه المتعلقة بما دُعي في الأدبيات الماركسية بـ «دور المجرم في صناعة التاريخ» في فرنسيس وين، رأس المال لكارل ماركس: سيرة، ص 104 - 107
  • 34. إدموند ولسون، تاريخ الفكر الاشتراكي المعاصر من فيكو إلى لينين، ترجمة يونس شاهين (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973)، ص 255. والحال، إنّ العنوان الأصلي لهذا الكتاب الصادر في عام 1940 هو To the Finland Station: A Study in the Writing and Acting of History (إلى محطة فنلندا: دراسةٌ في كتابة التاريخ وتمثيله (1940)
  • 35. المصدر ذاته، ص 257 - 258
  • 36. Stanley Edgar Hyman,The tangled bank: Darwin, Marx, Frazer and Freud as imaginative writers (New York: Atheneum, 1962)
  • 37. المصدر ذاته، ص 103
  • 38. المصدر ذاته
  • 39. ولهلم ليبكنخت، «من ذكريات عن ماركس»، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما، ص 305 - 306
العدد ٢٢ - ٢٠١٩

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.